النظام الاجتماعي في الإسلام
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴿الحجرات: ١٣﴾
د. هاشم غرايبة
يتميز المفهوم الإسلامي للمجتمع بأنه يعتبر البشر مجتمعات مفطورة أصلا على المدنية التشاركية والتعاونية، وليسوا قطعانا متميزة عن الكائنات الحيوانية بالعقل، كما يعتقد الملحدون، فيقولون إن الإنسان هو من ابتدع النظام المجتمعي بدوافع الحاجة والمصلحة.
الإختلاف الجوهري مبني على: هل الإنسان مخلوق مهيأ لما خلق له، أم وجد عبثا نتيجة للصدفة؟
لم يوجد عبر التاريخ والى اليوم أي عالم أو فيلسوف قال بأن فردا من الجنس البشري لم تلده امرأة، إذاً فالبشر جاءوا بالتناسل، ومنطقيا يجب أن يكون بداية السلسلة أب أول وأم أولى، منهما جاء أول مولود، ثم بدأ التكاثر.
ينشأ الإختلاف بعد ذلك على وجود الأسرة الأولى، المعلومة التي أنزلها الله على البشر عن طريق رسالاته، تقول ان الخالق فطر أب البشر الأول (آدم) ثم خلق منه زوجة له، أي خلقهم على غير صورة سابقة ، لتتشكل الأسرة الأولى، ومن نسلهم كان كل البشر.
الذين ينكرون وجود الخالق أنشأوا نظرية بديلة، وفكرتهم تقوم على عدم وجود خالق، وكل شيء بدءا من الكون والكائنات الى الإنسان، تكوّن عشوائيا وبالصدفة، وان تكوّن الإنسان مر بتطورات هائلة العدد واحتاجت لمليارات السنين بدءا من تشكل المكونات الحيوية، وانتقالا من الكائن الوحيد الخلية حتى صورته الحالية.
لا يوجد أي دليل مادي على هذه الفكرة الخيالية، لكن ما ينقض مبدأها هو المنطق ذاته الذي انبنت عليه، وهو استحالة توافق سلسلتين من مليارات الصدف، ينتجان مليارات الاحتمالات من الطفرات غير المتطابقة اتجاها، ليسيرا في خطين متوازيين فينتهيا بنتيجة (محددة جداً)، وفي وقت متطابق تماماً، وهي أن يتكوّن ذكر واحد من السلسلة الأولى وأنثى واحدة من الثانية، وفي نفس التاريخ ويلتقيا في مكان واحد ويعرفا ما عليهما فعله لكي ينتج المولود الأول.
ولأن المقدمات الخاطئة لا يمكن استخراج نتائج منطقية منها، لذلك نجد تناقضات في تفسير السلوكات العامة للجنس البشري، لدى من يتبنون الفكرة الإلحادية، في تفسير الوجود البشري ومعنى وجوده، فهي مبنية على العبثية وانتفاء الغاية من وجود الإنسان، لذلك فالتصور للمجتمع الإنساني هو أنه صورة مطابقة للمجتمع الحيواني البهيمي، أي الاستغراق في تحقيق المصالح والمنافع.
بينما يعتبر الدين أن وجود الإنسان في الكون غائي، أي بهدف تحقيق رسالة، لذلك ميزه الله بالعقل والقدرة على التصرف الحر، سماها رب العالمين (الأمانة)، وهي جملة واجبات ومهمات المحافظة على النظام الطبيعي الذي أوجده الله ضابطا للعلاقات بين كل الموجودات على الأرض ومحيطها.
أهم هذه النظم التي أوجده الله النظام الإجتماعي البشري، والتي أراد من خلاله ضبط النوازع البهيمية، لتكون العلاقة الإنسانية بين البشر قائمة على التعارف والتعاون على الخير، وليس التنازع على المصالح، ولا التقاتل على الممتلكات.
تبدأ هذه الضوابط بالنظام الأسري، كدائرة أولى، فجعل تكوين هذه الأسرة متطلبا فطريا، ينزع اليها كلا الجنسين، فيسعى الذكر والأنثى على السواء الى تحقيق هذا المتطلب بعد سن البلوغ، في تطبيق مباشر لمبدأي التعارف والتعاون بين الزوجين، ففي الأسرة (البيت) تبنى اللبنة الأساسية للمجتمع الذي هو الأسرة الأكبر (الوطن)، ويجري فيها تدريب وتأهيل الأفراد المنجبين (الأبناء) نتيجة لعلاقة التزاوج الحميمة، وإعدادهم ضمن جو المحبة والألفة لتشرُّبِ تلك الممارسات، ومن ثم يخرجون من كنف أسرتهم لتكوين أسر جديدة.
نلاحظ كيف يتوافق ذلك مع الطبيعة البشرية، فيما تجد المجتمعات الملحدة، تعاند هذه الطبيعة الفطرية، وتميل الى التحلل من القيود والضوابط، فهي ابتداء تعطي الأبناء والبنات منذ سن البلوغ حرية ممارسة الجنس، باعتباره غاية شخصية بهدف المتعة العارضة، وليس وسيلة للإنجاب متطلبها الأساس علاقة زوجية راسخة، لكن مع نقصان الخبرة وغياب الوعي للعواقب، غالبا ما يؤدي ذلك الى حمل غير مرغوب، فإجهاض ضار بصحة الفتاة الصغيرة، أو مولود محروم سلفا من أسرة طبيعية ترعاه وتربيه، فيبدأ الفساد بنخر المجتمع، وتحدث المآسي.
ظهرت آثار ذلك جلية في المجتمعات الأوروبية، في أوروبا عموما بلغت نسبتهم العام 1983 بحدود 33 %، و75 % من أمهاتهم دون التاسعة عشرة، وفي بريطانيا تحديدا تحدثت بيانات رسمية أن نسبة المواليد لأسر طبيعية تنخفض سنويا، ففي حين كان الأطفال غير الشرعيين في 1938 لا يتجاوزون 4 %، فقد وصلت العام 2016 الى أكثر من 50 %.
هكذا يسهل الاستنتاج بلا جدال أن العلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى هي حاجة أساسية لإدامة الجنس البشري، وليست كما هي بالمفهوم الليبرالي إحدى المتع الحياتية، مثلما أن الطعام ليس بهدف الاستمتاع بالطعم اللذيذ، وإنما كانت المتعة به دافعا لتناوله وإلا لما بقي الإنسان على قيد الحياة.
ولذلك جعل الله هاتين الحاجتين عند الكائنات فطرية (غريزية) تقوم بهما لا إراديا وبدوافع قاهرة، لكنهما مضبوطتان، فتناول الطعام يكبحه الشبع، والتزاوج محكوم بموسم محدد، و يتوقف الذكور عن الإقتراب من الأنثى عندما ينجح التلقيح، وينتهي فورا مفعول ذلك الدافع القاهر.
ولما كان البشر متميزون بالعقل وفهم الدوافع، فلم يجعل الله تزاوجهم موسميا، لكنه خاضع لحسابات عقلية، فجاءت الشريعة الإلهية كمرجعية معيارية، لتوازن بين حسابات العقل ودوافع الشهوة الغريزية، فلا يطغى أحدهما على الآخر، لذلك ضبط العلاقة الجنسية بالزواج، وحرمها خارجه، ووضع لهذه العلاقة شروطا تفصيلية دقيقة ضامنة لنجاح هذه المؤسسة وديمومتها، كونها أساس ديمومة الجنس البشري.
من هنا ينشأ الافتراق البيّن، بين النظام الاجتماعي الإسلامي، والنظام اللاديني بصورتيه: الرأسمالي والشيوعي.
فالدين يقدس الحياة الزوجية ويعتبر مؤسسة الأسرة هي الإطار الشرعي للحياة البشرية، فيما يعتبر الننظام اللاديني الفرد هو الأساس لذلك يقدس حريته ولا يتدخل بتصرفاته الشخصية ولا أخلاقه إلا إن نالت من حريات الآخرين.
الدين يضع الأسس لتلك العلاقة، ويحدد إطارها، وكافة التفصيلات الدقيقة المتعلقة بها، بينما يترك اللاديني تكوين أسرة من عدمها متاحا لحرية الفرد، ولا يشترط أن الغرض منها إنجاب الأطفال، فيجيز أن تتأسس بغرض المتعة الجنسية فقط كالأسر المثلية.
من هنا فالأساس الذي ينبني عليه المجتمع الديني سلسلة هرمية مترابطة تتكون من الأصول والفروع، وتتقاطع أفقيا بترابطات بين الأسر المتباعدة من خلال المصاهرة، فتحدث شبكة متينة من العلاقات الحميمة مترابطة عموديا وأفقيا، لتنتج نسيجا مجتمعيا متينا لا يتفكك بسهولة، فإذا أضفنا الى ذلك حوافز تشجع على زيادة تلك الروابط أساسها طاعة الخالق ووعد التوفيق في الحياة الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، تحت عناوين عديدة منها بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان الى ذوي القربى والجيران، وحتى الى البعيد المحتاج: الفقير والمسكين واليتيم والأسير وابن السبيل..الخ. فإننا نجد نسيجا مجتمعيا متماسكا مبنيا على التكافل والتواد والتراحم، لذلك ينخفض فيه التباين بين الغني والفقير على المدى البعيد بسبب الإحسان والصدقات والزكاة، وتتقارب الطبقات نتيجة لحالة الود والتآلف والتصاهر. وهما الشرطان المطلوبان لأي مجتمع ينحو للمثالية في حل مشكلاته.
في المقابل، نجد المجتمع اللاديني يكرس الطبقية، ويجعل العلاقة بينها صراعا، ولا يعتمد في الترابط إلا على قوانين حكومية، تخفف من الإحتقان الذي يولده التنافس على الإستئثار بأكبر قدر من الثروة والنفوذ، فابتدعت نظامين هما التأمين الصحي والضمان الاجتماعي، لكن مع بقاء مبدأ تقديس الكسب وتعظيم الربح، فقد استخدم هذان النظامان كاستثمار مربح من جديد، فتجمع الأموال كأقساط وتسثمر لتنتج أرباحا أكثر بكثير مما تدفعه لنفع الناس، فهي ليست إحسانا أبدا، ولا عملا خيريا كما يتوهم المشتركون فيه.
لذلك في المحصلة العامة (وهو ما نشهده حاليا)، فالنسيج المجتمعي متهتك من كثير من أطرافه بقوارض كثيرة له مثل:
تفشي الجريمة والسطو بسبب تعظيم قيم الأنا، وتبرير جمع المال، على حساب القيم الخير والصلاح، باعتبار الكسب معيارا للنجاح.
سهولة تلبية النزوات الجنسية العابرة، لعدم وجود ضوابط سواء بالمفاهيم الإجتماعية التي تبيحه، أو بالقيم الدينية التي تحرمه، فيكون بديلا غير مكلف للزواج الذي يستوجب التزاما ماديا وارتباطا دائما، فيعيق تكوين الأسر، التي هي لبنة المجتمع الأساسية، كما يهدم الأسر المستقرة.
سيادة القيم المادية الصرفة نقيض للعلاقة الحميمية التي تقوم عليها العائلة، فإنكار قوامة الرجل في البيت هو تناقض مع مبدأ الرأسمالية القائم أصلا على التفرد بالقيادة، مثلما هو يُحلُّ الرجل من مسؤليته المالية، والذي ينعكس قطعا على تربية الأبناء، وبالتالي جيلا بعد جيل تتفسخ الروابط بين الأصول والفروع وبين الإخوان أفقيا، مما يعزز من جديد روح الفردية الاستئثارية وليست الفردية الإبداعية.
هكذا يتبدى لنا أن المجتمع الإسلامي، ليس كما يظنه الآخرون، مجرد مجتمع رجاله ملتحون ونساء محجبات.
إنه المجتمع الإنساني الحقيقي كما أراده من خلق البشر، ليرتقوا بعبوديتهم لله، بدل أن يخلدوا الى الأرض بعبوديتهم لشهواتهم.
الآراء